المتحدث الجيد
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والسلام على إمام البلغاء وسيد الفصحاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أجمعين.
وبعد
فإن من مقتضيات الالتزام بأمر الله تعالى النهوض لتبليغ رسالة الإسلام بأحسن بيان وأنصح حجة , حيث ينبغي أن يشعر كل مثقف ملتزم بأن عليه مسؤولية نشر المفاهيم الصحيحة ومقاومة السلوكات المنحرفة , فهذا يشكل بعض حقوق الريادة الفكرية والعلمية .والقيام بهذه المهمة الجليلة يتطلب من الواحد منا أن يحصل المعلومات ويكتسب المهارات التي لا يتم النجاح في المجال الدعوي بدونها .
فقد كانت العرب في الجاهلية توصف بأنها أمة فصاحة وبيان , وكانت تقيم الاحتفالات وتظهر الأفراح والمسرات حين ينبغ فيها شاعر أو خطيب , لأن أمجاد القبيلة و مآثرها تكون مغيبة أو مندثرة أو موضع جدل وشك ما لم يقم أحد أبنائها ببلورتها وتقديمها في نظم بديع على أنها شيء يبعث على الفخر والاعتزاز .
ويبدو أن الإنسان كان على مدار التاريخ في حاجة ماسة إلى أن يمتلك من قوة البيان ووضوح الخطاب ونصاعة الحجة ما يمكنه من نشر أفكاره و الإقناع بها , بالإضافة إلى الدفاع عنها والدفاع عن الحقوق المغتصبة .إن التفوق اللغوي والبلاغي تحتاج إليه الصفوة بحكم موقعها القيادي , كما أن ذلك التفوق قادر في كثير من الأحيان على جعل أشخاص عاديين ينظر إليهم على أنهم من الصفوة التي يحسب حسابها .
إن الرسل – عليهم الصلاة والسلام – بوصفهم حملة رسالة كانوا دائما يتمتعون بدرجة عالية من وضوح البيان والقدرة على الشرح والإقناع ,وقد اعترف قوم نوح – عليه السلام – له بأنه جادلهم فأطال جدالهم حين قالوا : ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ) .وكان من جملة منن الله تعالى على داوود – عليه السلام – ما آتاه الله من القدرة البيانية حين قال : ( وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) .
وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بفصل الخطاب هو الفصل بين الحق والباطل أو هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . وقد طلب موسى – عليه السلام – من ربه – جل وعلا – أن يحسن بيانه , وأن يرفده بأخيه هارون ليكون مؤازرا في تبليغ رسالته لكونه أفصح منه لسانا حيث قال : ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ) .وقال : ( وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ) .
وأرشد نبيه – صلى الله عليه وسلم – إلى أن يدعو الناس بتلطف ولين دون مخاشنة ولا تعنيف , وأن يستخدم معهم أحسن أسلوب في الحوار والجدال حيث قال - سبحانه - :( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) .وفي هذه الأيام حيث يزدحم العالم بالمذاهب والفلسفات والدعوات , وحيث يتعرض العالم الإسلامي لدفق ثقافي أجنبي هائل , يتحتم على كل المهتمين بالشأن الدعوي أن يقوموا بمراجعة شاملة لأساليبهم الدعوية وللمفاهيم والركائز التي يقوم عليها خطابهم الجماهيري بغية تثقيف الناس بالمذهبية الإسلامية في مختلف قضايا العصر ومشكلاته , وبغية تحصين أبناء الأمة من الانحراف خلف التيارات العلمانية والإلحادية المتصاعدة .وإني لآمل أن يشكل هذا الكتاب خطوة صغيرة على طريق النهوض بالأساليب الدعوية إنه سميع مجيب .
أولا : البحث عن الجودة
يواجه المتحدثون والخطباء تحدياً غير مسبوق عبر الدفق الإعلامي الهائل. ففي حين كان خطيب الحي هو الوحيد الذي يسمعه الشخص أصبح يسمع لآلاف المنظرين وأصحاب الآراء والأفكار، ومنهم من هو على مستوى عال من الثقافة وجودة الإلقاء.إن من فضل الله على الأمة الأمر باجتماعها كل أسبوع، فهل استثمرنا هذا اللقاء؟ إن خطبة الجمعة ما تزال تقوم بجزء من دورها لكنه أقل مما يجب. لأسباب منها إتباع البعض الأسلوب الوعظي وتكرار الموضوعات لدى كثير من الخطباء، وبعضهم لا يهتم بالخطبة أصلاً.
إن إدخال التحسينات على الخطاب لا يعني الوصول للكمال، بل لابد من البحث عن التحسينات بشكل مستمر.إن تحسن مستوى مخاطبة الناس والتأثير فيهم مطلب عام في الحقيقة، فوضوح التعبير شرط للنجاح في الأعمال الحياتية. والدعوة إلى الله ليست وظيفة يقوم بها فئة متخصصة، بل هي وظيفة عامة ومشتركة لكل مسلم. ولابد أن يكون ضمن مناهج الجامعات مادة للخطابة والحوار والتفاوض أسوة بالعديد من الدول المتقدمة.
...يُتبع
دكتور/عبدالكريم بكار
من كتاب /المتحدث الجيد
Prepared By: